قال: (النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع). إذاً: هذا النوع الثاني لا يستمر عذابهم إلى النفخ في الصور وقيام الساعة، قال: (إلى مدة، ثم ينقطع فهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب). ولم يورد على هذا نصاً، وإنما ذلك مقتضى الحكمة ومقتضى القياس، أي: كما أن من يدخل النار يدخلها بحسب ذنوبه ومقدار عمله ثم يخرج منها ما دام من أهل التوحيد، وهذا هو الشرط الأساسي، فالمهم أن يكون من أهل التوحيد وأن يلقى الله تعالى غير مشرك به، قال تعالى: ((
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، فهذا في حق أهل التوحيد. فكما أن أهل التوحيد يخرجون من النار ولا يخلدون فيها أبد الآبدين؛ فكذلك من يعذب في القبر منهم لا يخلد فيه، وإنما بقدر جرمه يعذب ثم يخفف أو ينقطع عنه العذاب. وقد وصل الحديث بـ
ابن القيم رحمه الله إلى المسألة التي سبق أن عرضنا لها، وهي مسألة إهداء القربات، فيقال: (وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء أو صدقة أو استغفار أو ثواب حج ...) إلى آخره، يريد أن يؤكد ما سبق من أن مقتضى الحكمة ومقتضى القياس على من يدخل النار يستدل عليه أيضاً بهذا، فإنه قد يكون لديه من الذنوب ما يعذب بقدرها، فيعذب في قبره ما شاء الله أن يعذب، وربما يكون ممن يستحق بعمله وذنوبه أن يعذب في القبر عذاباً دائماً، بل ربما يستحق ما هو أكثر، ولكن الله سبحانه وتعالى ييسر له من غير عمله، فينقطع عنه العذاب بذلك، كما لو دعا له أحد واستجاب الله تبارك وتعالى له دعوته فيه، أو شفع له وقبل الله تبارك وتعالى شفاعته، أو تصدق عنه وقبل الله صدقته، أو حج عنه، ولا سيما إن كان العمل مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث... )، فالصدقة الجارية ربما لا تكفي الإنسان في أن يتطهر قبل أن يموت، وربما لم يبدأ في استثمارها والعمل بها إلا بعد أن مات، فتكون في حياته ملكاً له ثم تصدق بها قبيل وفاته أو قبيل مرض موته فلا يزال أجرها يستمر وهو لا يزال في حاجة إلى الخير وإلى الحسنات، والله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ))[النساء:40]، وهذا مقتضى حكمته سبحانه وتعالى وعدله، ((
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، يعني أنه يبارك ويزيد في الحسنات، بل ويؤتي من عنده من غير أن يعمل العبد، فيتكرم ويتفضل على من يشاء من عباده الصالحين، فإذا كافأ هذا الأجر ذلك الذنب انقطع العقاب وانتهى، ولا يزيد الله تعالى عليه ولا يظلمه، فيتحول صاحبه من العذاب إلى النعيم فينجو بإذن الله سبحانه وتعالى.وكذلك إذا كان له ولد صالح يدعو له، وهذا أيضاً يتصور، كأن يكون للرجل ولد فاسق ضال، أو صغير لا يعقل، وبعد حين من الزمن والأب المذنب يعذب في قبره أراد الله تبارك وتعالى توبة ذلك الشاب الضال فاهتدى واستقام وعرف الله وأخذ يصلي ويصوم ويدعو لأبيه ويتصدق عنه ويفعل الخير، ولا سيما الدعاء المنصوص عليه، فببركة استقامته وتقواه ونشأته في طاعة الله تبارك وتعالى ودعائه لأبيه يخفف الله تعالى العذاب أو يقطعه عن أبيه.وهذا من الأمور التي يجب أن يتنبه لها المسلمون، فمن الناس من لا يبالي بأبنائه من بعده، فغاية ما يهمه أن يكون لديهم الأموال والأراضي والعقارات والوظائف، ويهمه -كما يعبرون بعبارة موجزة- تأمين المستقبل، والله تعالى يقول: ((
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ))[الأنبياء:1]، هذا حال أكثر الناس، حتى من يقرأ منهم كتاب الله ويعيش في بلاد الإسلام بين المسلمين، معرضون وفي غفلة عن هذه الأمور، فلم تهتم بمستقبله؟! إن مستقبلك أنت ومستقبله في الآخرة، عندما يقول: ((
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ))[الفجر:24]، فهذه هي الحياة وهذا هو المستقبل، فلو أن الأب اهتم أولاً بالعمل الصالح، ومع ذلك اهتم بتربية أبنائه تربية صالحة تكون صدقة جارية من بعده، واهتم بعلم نافع من بعده وأثر حسن في العالمين وهدى يدعو إليه فيكون له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة؛ لكان له في ذلك الأجر العظيم، ولا يعني هذا أن يترك الدنيا، فنحن لا نقول: دعوا الدنيا أي اتركوها بالكلية كما قد يفهم بعض الناس، إنما نريد أن يتركوا التعلق بها، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في حديث
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الصحيح-: (
فإنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيَّ امرأتك ).فلا بد للإنسان أن يعلم أجر ما ينفقه على أهله، وأن يهتم بالجانب الآخر وبالأمر الأعظم والأهم، وهو ما يقدمه لهم عند الله، فإن ذلك ينفعه وينفعهم وينفع المجتمع والأمة بلا ريب.